جامبيل جباييف…“هوميروس كازاخستان”، الشاعر والموسيقي الأسطورة

كتب الدكتور عبد الرحيم ابراهيم عبد الواحد
جهد جاهد استغرق إعداد هذا البحث الأدبي حول الشاعر والمفكر الكازاخي جامبيل جباييف، وسبقه زيارة ميدانية لمسقط رأسه في مدينه “تاراز” التي حملت اسم الشاعر فيما بعد، تجسيدا وتخليدا لذكراه وانجازاته في خدمة بلده وأبناء جلدته من الكازاخ منذ ما قبل الاستقلال الذي مر عليه هذا العام 30 عاماً، حيث استعنا بنحو 11 بحثا وعملا دؤوبا استمر 3 شهور.
تتأكد يوما بعد يوم، المقولة التاريخية بأن رؤية الخطوط العريضة للمستقبل تعتمد على النظر إلى الماضي وفهم الواقع الحاضر، لذلك كان من الضروري الغوص في بحور شخصيات رائدة عظيمة من الشعب الكازاخي أثرت وتأثرت وخرجت بإبداعات وقواعد اجتماعية وإنسانية وسياسية أيضا، فكان من بينهم: الفيلسوف والعالم والمنظر والمجدد محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي المكنَّى بأبي نصر، والشاعر والفيلسوف الرائد آباي إبراهيم قونانباي، وأيضا الشاعر والموسيقي محل مقالنا التالي: جامبيل جباييف.
ويُوصف الشاعر والمفكر الكازاخي جامبيل جباييف بأنه أسطورة عصره، ومجسد الاشراق الأدبي الكازاخي خلال الحقبة السوفيتية السابقة، وشاعر السهوب العظيم، والشاعر الشعبي، فيما أطلق عليه الرئيس الأول نور سلطان نزارباييف لقب “هوميروس الكازاخستاني”، فميا وصفه الكاتب الكازاخستاني الشهير مختار أويزوف بأنه ألمع موسيقي ومغني وأكثرهم موهبة في عصرنا.
وتكريما لذكرى ميلاد الشاعر الـ 175، احتفلت كازاخستان قبل عده أشهر وتحديدا في 28 فبراير 2021 الحالي، بالذكرى السنوية الـ 175 لميلاده (1846-1945)، وقد تم إطلاق 10 مجلدات من أعمال الشاعر المنشورة، وطباعة ونشر نحو 30 ألف نسخة منها، فيما أقامت وزارة الثقافة والرياضة الكازاخية العديد من الأمسيات الأدبية والزيارات الميدانية ومعارض كتب وموائد مستديرة وأحداث أخرى تهدف إلى التعريف بمكانة هذا الشاعر والمفكر.
ويعتبر الشاعر والموسيقي العظيم شخصية أسطورية، حتى أن فترة حياته فريدة من نوعها، حيث وُلد عام 1846 وتوفي في 22 يونيو 1945 – بعد أسابيع من هزيمة النازية في ألمانيا. لم يكن لديه سوى ثمانية أشهر ليعيشها للاحتفال بعيد ميلاده المئة، الذكرى المئوية، كما جاء مولوده عد أربع سنوات فقط من وفاة ميخائيل ليرمونتوف وتسع سنوات بعد وفاة ألكسندر بوشكين – الشاعران الروس العظيمان.
ويصف غالبية الأدباء والمفكرين والشعراء في أنحاء مختلفة من العالم، (وللأسف ما عدا المنطقة العربية التي تخلو من المعرفة الكاملة لمكانة هذا الشاعر) أن أعمال الشاعر الأدبية والموسيقية، هي تدخل ضمن العمل الإبداعي المميز اقليما وعالميا.
وبممارسة التأمل في الكلمات والمعاني التي أوردها الشاعر خلال أعماله الأدبية، تشير إلى حس انساني صادق مع نفسه ومع الأخرين من أبناء جلدته عن حياتهم اليومية، فعبر عن معاناتهم اليومية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والفكرية، ناصحا وموجها ومعلما بكلماته الى الأفضل من الممارسات والسلوكيات التي كانت سائدة آنذاك، حيث انتشرت الأنانية وحب الذات إلى أبعد الحدود، فكانت ردوده بالكلمات قوية ومؤثرة ونافذة في غالبية أفراد الشعب الكازخي، والسبب على ما نعتقد وحسب الروايات المختلفة، أسلوبه الرقيق والمشوق والمقنع والذي حافظ من خلاله على شخصيات الآخرين من أبناء بلده، ومن خلال عدم الإساءة إليهم أو الهجوم عليهم بقسوة العبارات والكلمات والتعبيرات.
كما اتسم الأسلوب الأدبي والشعري للشاعر، بالثقة بالنفس وتصوراته الواقعية لمفردات الحياة اليومية من فرح وحزن وبساطة التعاملات الاجتماعية بين الناس، فيما وتميز أسلوبه الشعري بالثراء النفسي وتماسك صورة الحياة والإخلاص والبساطة الملحمية للسرد اللغوي، فيما مثلت أغانيه صفحة مشرقة من الأدب الكازاخستاني خلال الحقبة السوفيتية السابقة.
ومن جانبا نرى بأنه من الضروري على السلطات المختصة بشؤون الأدب والثقافة في كازاخستان التركيز على نشر ونقل الأعمال العظيمة التي تشكل جزءًا من تراث الأمة الكازاخية، إلى الأجيال الكازاخية القادمة.
وفي الوقت نفسه، تجسد حياة الشاعر جامبيل عن طفولة حياة الأجداد الكازاخ، التي عبر عنها الشاعر بكلمات وأبيات وصفت بأنها جميلة جدا ومعبرة عن الواقع في ذلك الوقت، فيما امتازت بالسهولة وقوة التعبير عن كازاخستان وطبيعتها وشعبها، بل إنه ارتدى الملابس الكازاخستانية التقليدية وفضل التمسك بالعادات التقليدية الغنية بتقاليد السهوب التي سمحت له بالعيش طويلا في أجواء من الطمأنينة والرضى عن النفس.
وقد استخدام الشاعر الكازاخي وسيلة إبداعية في الرد على مآسي الحرب العالمية الثانية وحصار لينينغراد، والعديد من التحولات الاستراتيجية التي عاشها، تمثلت في تنظيم وتنفيذ ألحان قصائده باستخدام آلة الدومبرا الكازاخية الشهيرة، وأبرزها “لينينغرادرز، أولادي، لينينغرادرز، كبريائي”، مما ساهم في اعتبار الإرث الشعري لهذا الشاعر ضمن الكنوز الذهبية الروحية للشعب الكازاخي بأسره.
بل واستطاع هذا الشاعر، حيث يكاد أن يكون الوحيد فيما أجمعت الأبحاث، في أنه استطاع أن يربط ويوحد بين حقبتين مهمتين في تاريخ شعوب الاتحاد السوفييتي السابق، كازاخستان قبل الحقبة القيصرية، وتحديدا فترة حياة بوشكين وليرمونتوف، والحقبة الثانية التي شهدت نهاية الاتحاد السوفيتي واستقلال كازاخستان.
ومن هنا ظهرت شهرة هذا الشاعر عام 1936، وحينها في التسعين من عمره، وقال آنذاك: “لن تكون أكبر من أن تتعلم أبدًا، ولن تكون أبدًا كبيرًا في السن على الشهرة” فهي أكثر اطمئنانًا، فيما ترسخت شهرته ومكانته الأدبية عندما اقترح الشاعر الكازاخستاني تزيباييف على الشاعر جامبيل أن يتولى منصب “الرجل العجوز الحكيم” في الاتحاد السوفيتي (أكساكال)، وهو مكان يملأه تقليديًا الشعراء المسنون من أراضي القوقاز.
وفي الوقت نفسه اتهم بعض النقاد الشاعر جامبيل بكتابة “الشعر السياسي”، بأنه أعمته قوة الاتحاد السوفيتي، هناك بعض الحقيقة الواقعية في هذا البيان، لكن لا توجد حقيقة جمالية فيه.
كما كان يرى جامبيل بأن شعب لينينغراد، (الآن سانت بطرسبرغ) عانى من مجاعة مروعة أثناء حصار النازيين لمدينتهم في 1941-1944، حيث عبر عن آلامهم ومعاناتهم بأشعاره وكلماته القوية
بل يؤكد النقاد والمتابعين لأعمال جامبيل الذي كان لديه عاطفة قوية جياشة، أنه بإمكان القارئ أن يشعر بمقصوده عند قراءة أبياته وكلماته، وذلك وقتما كان يبلغ من العمر 95 عامًا، وحينها قال:
لينينغرادرز، أطفالي!
لك – التفاح الحلو كأفضل أنواع النبيذ،
من أجلك – خيول من أفضل السلالات،
من أجلكم، أيها المقاتلون، أشد الاحتياجات إلحاحًا …
(اشتهرت كازاخستان بالتفاح وتقاليد تربية الخيول).
لينينغرادرز، حبي وكبريائي!
دع نظراتي تتسلل عبر الجبال،
في ثلوج التلال الصخرية
أستطيع أن أرى أعمدتك وجسورك،
في صوت سيل الربيع،
أستطيع أن أشعر بألمك وعذابك.
لقد عاش جامبيل عمره كله في اندماج مع المجتمع شعرا وحياه، حيث واجه الكثير الأحداث التاريخية، والمشاركة بنشاط فيها، حيث كان منذ صغره، يتقن التقاليد الوطنية للشعب الكازاخستاني وترك بصمامته رائدة من الأعمال الفنية الفريدة الموسيقية التقليدية، حتى أصبح تراثه الفني والشعري والموسيقي أصبح القيمة الثقافية، وخاصة أنه درس بالتفصيل في المقام الأول في فقه اللغة.
ويعترف الباحثون بوجد عدد قليل جدا من المقالات حول الأعمال الإبداعية الموسيقية للشاعر، ومنهم وهم قليلون: العالم والبروفيسور الشهير “بيلييف”، حيث كتب مقالات مفصلة ومطولة تاريخ وجذور علم الموسيقى في العام 1962 نصا وعملا لدى شعوب اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وخص في فصل خاص يتعلق بكازخستان عنوانه “”الثقافة الموسيقية لكازاخستان”
ومن بين الإصدارات الجديدة، تعتبر أعمال الباحثين المعاصرين مهمة (KUZEMBAY S.، 2011)، والتي تلبي متطلبات الفترة الحالية ولها نهج متكامل ذي صلة، فيما يتعلق بالتراث الموسيقي للشاعر جامبيل الذي يعتبر منهجيًا ويتم تقديمه كواحد من الأجزاء المكونة لإبداعه الأدبي.
ويلاحظ أنه وفي الأعمال الإبداعية لممثلي الموسيقى التقليدية الكازاخية، تتشابك الأنواع الوطنية مع بعضها البعض، وبالتالي تتطور الشخصيات الإبداعية بطريقة متعددة الأوجه، ومع ذلك، فقد تم الحفاظ على الاتجاه السائد في وعي الناس.
لقد قُيل عن أغاني الشاعر جامبيل والتي تصف حياة الإنسان، والمشاعر والأحاسيس الداخلية، والأفكار، بأن لها طبيعة خاصة في كلماته وتعبيراته وأهدافه، حيث كان للشاعر مؤلفات غنائية نقية بألحان أصلية ونصوص شعرية ذات محتوى مختلف والتي تعتبر نموذجية لأنواع ثقافة الأغاني الشعبية، مثل المدح، والأغاني التعليمية، والأخرى التي تتناول قضايا الحياة الاجتماعية اليومية، كما كتب بإسهاب وتركيز أغاني رائعة حول الطبيعة والأغاني الوطنية المرتبطة بالأحداث التاريخي، بالإضافة إلى الأغاني من الشعبية
ومن ضمن مجالات النشاط الإبداعي، والذي لا يعرفه غالبية الناس، أو يعرفون، ولكن “لا يرون” أو لا يدركون – هو فن kyu. ، حيث تم عرض الحقائق حول ذلك في أعمال جامبيل من خلال المقالات في الصحف الدورية خلال حياته، وعلى سبيل المثال، في مقال نُشر عام 1938 في صحيفة (الأدب الكازاخستاني).
وبإمكاننا التأكيد على أن المتابع لأعمال الشاعر الكازاخي محل القراءة هنا، يلاحظ وبوضوح النشاط الإبداعي للشاعر من خلال تطوير أربع مجالات للفن الموسيقي التقليدي هي: song، aitys، zhyr، kuy، حيث تنعكس شخصيته تنعكس في كل مجال من تلك المجالات الفنية الابداعية، والتي حددت شخصيته الفنية طوال مشوار حياته، فيما تدلل العوامل المساهمة في إظهار السمات المبتكرة له في كل من التقاليد الوطنية الأربعة، وذلك طوال فترة حياته الإبداعية (1846-1945).
وقد ساهمت العديد من ظروف الحياة السياسية والاجتماعية، إضافة إلى مجموعة متنوعة من التأثيرات الخارجية والسمات الشخصية، في تنوع وتطور أعمال الشاعر والموسيقي العظيم، حيث أشارت معظم الدراسات إلى أن هذه الأعمال الإبداعية كانت تواكب حدود الوقت الذي تطورت فيه مهاراته وتحسنت، في تشابك اتجاهات النوع والأسلوب، وديناميات تغييراتها، وتطور التفاعلات مع مختلف ممثلي الفن الشعبي والشفهي المهني، ليس فقط الكازاخستانية، ولكن أيضًا أعراق الشعوب الأخرى.
كما تشير الدراسات المختلفة بأن الاستنتاج حول ابتكارات وابداعات الشاعر قد تمت من خلال تحليل أعماله الأكثر إشراقًا، والتي تشمل: أغاني “Zhiyrma bes” و “Akindarga arnau” “، kuy “Ottі-au-dauren”، “Narіkbaydin zary”، وعلى هذا الأساس، برزت وجهات نظر متعددة لأعمال الإبداعية.
ونعتقد جازمين وبعد ما قمنا به من متابعات بحوث عديدة في هذا الإطار استغرقت أكثر من 3 شهور، يمكن القول بضرورة تكثيف مستويات وإعداد الدراسة حول أعمال الشاعر، بل والارتقاء بمستويات البحث عن إبداعه في علم الموسيقى، وفي الوقت نفسه تقديم صورة الشخصية البارزة للثقافة السوفيتية في نظام شخصيات الأوبرا وخلق أعمال موسيقية جديدة تعتمد على النصوص الشعرية للشاعر الفذ جامبيل، بل ونرى بضرورة واجبه للقيام بالمزيد من الدراسات المعمقة و المفصلة حول هذا المبدع الكازاخي وإنجازاته وأعماله وتجربته الأدبية بهدف تعميمها لتكون نبراسا للأجيال المقبلة، سواء الكازاخ أو المسلمين بشكل عام.
تؤكد أعمال الشاعر مدى هيبته وقوة شخصيته التي ربطت بين الماضي البعيد والحاضر، وحددت معالم مستقبل الأدب الكازاخي.
ونعتقد بأن أعمال الشاعر الأدبية على اختلافها شعرا وموسيقى، ستظل إلى الأبد تعتبر واحدة من أعلى القمم في هرم الأدب الكازاخستاني.
