الظاهر بيبرس… في ميزان الصحافة

 الظاهر بيبرس… في ميزان الصحافة

كتب الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد

السطور التالية تمثل فصلا مستقلا من كتابي “الظاهر بيبرس، أسطورة أهملها التاريخ”، يتحدث عن اتجاهات فكرية متنوعة للعديد من الصحافيين والمختصين بالشأن التاريخي، مع الاحتفاظ بالقاب ومسميات الزملاء والاستاذة.
فقد أكد الصحافي والكاتب محمود الحضري رئيس التحرير التنفيذي لجريدة “المشهد”، ومدير عام تحرير جريدة “البوابة” المصريتين، بأن الاهتمام الإعلامي بالظاهر بيبرس تكاد تكون محدودة، ولكن هناك معالجات تاريخية في كتب “التأريخ” عن حياته، كما أن هناك خلط بين الحقيقة والأسطورة في المعالجة، ولا يعرف العامة المعلومات والمواقف سوى من الأفلام والمسلسلات، رغم أن هناك اجماع بين المؤرخين على أنه المؤسس الفعلي لدولة المماليك، وصاحب الانتصارات علي المغول، وواحد ممن قضى فترة طويلة في الحكم وصلت 17 عاما.
ربما هناك خلاف على محاولته احياء الخلافة العباسية، وهذا أمر يرجع لبقاء واحد فقط من الأمراء العباسيين وهو الأمير أحمد ابن الإمام الظاهر. والجزء المتعلق باستقدام الظاهر بيبرس الأمير أحمد عام 1261 ميلادية، وتكليفه مجموعة من العلماء و القضاة والأمراء لإقرار صحة نسب الأمير إلي البيت العباسي و وتلقيه بالخليفة المستنصر، ثم بايعه بيبرس و باقي رجال الدولة ، و بعد ذلك قام الخليفة بمنح بيبرس تفويضاً بحكم مصر و الشام و الفرات.
ربما هناك خلاف على محاولته احياء الخلافة العباسية، وهذا أمر يرجع لبقاء واحد فقط من الأمراء العباسيين وهو الأمير أحمد ابن الإمام الظاهر، والجزء المتعلق باستقدام الظاهر بيبرس الأمير أحمد عام 1261 ميلادية، وتكليفه مجموعة من العلماء والقضاة والأمراء لإقرار صحة نسب الأمير إلي البيت العباسي وتلقيه بالخليفة المستنصر، ثم بايعه بيبرس وباقي رجال الدولة، و بعد ذلك قام الخليفة بمنح بيبرس تفويضاً بحكم مصر و الشام و الفرات
ودعا الإعلامي الحضري إلى ضرورة الاهتمام الإعلامي بهذا الجزء التوثيقي، والتعريف به، خصوصا بشأن من قتله خلال رحلة سفره إلى بغداد الظاهر بيبرس، ظاهرة تاريخية تحتاج إلى ابراز ودور إعلامي أكثر وضوحا، خصوصا أنه حمى بلدان المنطقة من مذابح المغول، بمقتل هولاكو وأوقف محاولات المغول الثأر من هزيمتهم في عين جالوت وبحروب جيوشه عندما أغاروا على البيرة ونهر الفرات واجبارهم على الانسحاب في حملة تعتبر أكبر حملة تطهير من المغول.
وحول الوسيلة المناسبة لمعالجة هذا القصور، قال الحضري: “أعتقد أن معالجة القصور في تقديم بيبرس يحتاج إلى معالجات بحثية وليس مجرد كتابات صحفية، خصوصا في الجزء المتعلق أيضا بالحروب الصليبية وطردهم من مدن مثل أرسوف، ودخول الجليل، وقراراته الصارمة في تصفية كل من يقع في يده من المغول والصليبين.
وحول البدائل المتوفرة والمناسبة اعلاميا وأكاديميا ورسميا وشعبيا وتعليميا لتعويض ما فات وبدء مرحلة توعوية جديدة بإنجازات هذه الشخصية، قال الحضري:” إن الاهتمام بصلاح الدين الأيوبي غطى على حروب الظاهر بيبرس، وهو ما ابراز، ومن المهم الاهتمام الأكاديمي البحثي بما قام به الظاهر بيبرس، وإعداد أبحاث مستقلة عن كل فترة من فترات حكمه، وحروبه المختلفة، ولابد من الحيادية في البحث دون تضخيم “درامي” في الأحداث، وعدم انكار دموية ممارساته خلال الحروب، وسببها، وعدم نجاحه في بعض الحروب “مثل حرب قبرص”، وكذلك ما يتعلق ببروز سوق الرقيق في عصره من خلال بيع سبايا الصليبين والأسرى. حياة بيبرس مهمة جدا والكلام فيها يطول، وتبقى المعالجة البحثية مهمة أشخاص مهتمين بالتاريخ، دون تضخيم أو تجميد، أو هؤلاء الذين يصلون في بعض الأحيان لمرحلة التأليه.
أبدى الروائي والكاتب الصحفي محمد القصبي نائب رئيس التحرير بجريدة الدستور حاليًّا، ودار أخبار اليوم سابقًا موقفًا شديدًا وصارمًا حول موقف المؤسسات الإعلامية العربية من حياة وإنجازات الظاهر بيبرس، فيرى أن الصحافة اليومية والأسبوعية عادةً تنشغل بما هو آني، وتكاد تنقطع صلتها بالتاريخ.
ويقول القصبي: “كثيرًا ما يحدث أن يأتيني كاتب بمقال عن حدث وقع من أسبوع، فأعتذر عن نشره، ومبرري أنه يتناول حدثًا سقط من ذاكرة القارئ، كان هذا خلال مسؤوليتي عن صفحة المقالات بجريدة الأخبار المسائي التي تصدر عن دار أخبار اليوم”.
ويستطرد قائلًا: “لكن هذا لا يعني أن تنقطع الصلة بين الإعلام الآن والتاريخ، فمن خلال المقالات مثلًا على الكاتب أن يستحضر وقائع وأحداث من التاريخ تفوح بذات الرائحة التي تفوح من أحداث اليوم، فحين أكتب مقالًا مثلًا عن كيفية مواجهة الإرهاب الآن، يمكنني أن أستحضر من التاريخ نموذج بيبرس الناجح، حين واجه جماعة الحشاشين في الشام، وبدأ حربه معهم عام 1270، إلى أن استأصل جذورهم تمامًا عام 1273؛ أي بعد ما يقرب من القرنين من وجودهم وانتشارهم ما بين فارس والشام، وجرائمهم البشعة التي ارتكبوها باسم الدين”.
“أيضًا ثمة ما يتسم به بيبرس كحاكم -يضيف القصبي- أنه ليس مثل العديد من الحكام، إن انشغل بأمر خارجي تلهيه عن هموم الداخل، فكل ضربة سيف ضد المتآمرين على الأمة في الخارج؛ صليبيين ومغولًا وحشاشين، كانت تقابل من قبل الظاهر بيبرس بلبنة توضع في جدار مدرسة أو مسجد في الداخل”.
“هذا الحرص افتقده العديد من الحكام المعاصرين، بل تعمدوا إهمال الداخل بحجة أن لا صوت يعلو على صوت المعركة!! معارك الخارج بالطبع”!
ويشدد القصبي على أنه إن كانت الصحافة الجماهيرية اليومية والأسبوعية مستغرقة في أحداث وهموم اليومي والآني، فلدى العرب والمسلمين عشرات إن لم يكن مئات الدوريات الثقافية، يمكن أن تلعب على وتر الحبل السري ما بين التاريخ والمعاصر، والناتج خاصة إن كان القائمون بالمهمة متخصصين مستنيرين، وليس هؤلاء الذين يقرؤون التاريخ من زوايا ضيقة تخدم أهدافًا خاصة، أقول: الناتج سيكون عظيمًا، بل وربما نجد من خلال الدراسات التي تنشر في هذه الدوريات إجابة علمية عن أسئلة محورية محيرة: لماذا أصبحت الأمة هكذا؟ لماذا انزلقنا إلى مستنقع التخلف والجهل والضعف؟ لماذا أصبحنا أمة مهددة أركان هويتها بالانقراض؟
ويطالب القصبي ببث برامج تستلهم من التاريخ ما يمكن أن يكون أكسجين الحاضر لمواجهة تحدياته ومخاطره، ويقول: منذ فترة تراودني فكرة برنامج بعنوان “منارة التاريخ”: يرتكز على قراءة واعية لحدث تاريخي بعينه، وكيف أستلهم منه دروسًا لمواجهة حدث معاصر يمثل تهديدًا للأمة.
المشكلة في قول القصبي بأسى؛ في صعوبة العثور على قناة تغامر بتبني برنامج مثل هذا، فالأفضلية الآن للبرامج التي تحقق معدلات مشاهدة أعلى، حتى لو كان ضيوفها راقصات درجة رابعة!
ولفت القصبي إلى أن ما يدفع إلى كل هذا كله أن رؤساء التحرير والقائمين على وسائل الإعلام بمختلف فنونها يعانون أنيميا معرفية، على حدِّ وصفه، وﻻ يبالون سوى باﻵني السطحي.
على أنه في المقابل يشير إلى وجود مؤرخين لكنهم مشغولون بملاحقة لقمة العيش، ومن هنا سيطلبون مقابلًا ماديًّا لا يوجد الكثير من رأس المال مستعد لدفعه.
وانتقد الروائي القصبي الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي تناولت ظاهرة الظاهر بيبرس، وقال: جرى معالجتها دراميًّا من خلال السينما بفيلم واإسلاماه، إضافة إلى أعمال تليفزيونية، لكن ثمة معالجات ﻻ تتسم بالعمق، وهي مجرد ارتباط بفكرة قد تكون حتى بعيدة عن الرمز الذي يجري الحديث عنه.
ويتابع القصبي أنهم يصنعون حفلة على شكل دراما من دون اﻻهتمام بالمعطيات والمناخات السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وأحيانًا يقتصرون في تركيزهم على أفعال القلوب والعشق والغرام في محاولة لجلب مزيد من المشاهدين والمتابعين للعمل الدرامي وهو ما يسقطه علميًّا وتاريخيًّا.
ويشير إلى أنه لم يرَ عملًا دراميًّا على سبيل الاستشهاد يشرح ظاهرة جلب المماليك من شمال شرق آسيا، وتحولهم إلى مماليك بعد انهيار الدولة اﻷيوبية، ولِمَ كان يجري ذلك بالضبط.
ويقول: “ما نعاني منه هو أعمال درامية تحاول الإجابة عن أسئلة سطحية تخدم صانع العمل وليس العمل أو ما صنع لأجله العمل، في سردية عبثية كأنها تتسلى، رغم أنها تتحدث عن إحدى أهم الحقب في التاريخ الإسلامي، إضافة إلى كونها حقبة لم تبتعد كثيرًا عن الوقت الراهن، ويمكن الاستفادة منها في الظروف الواقعة وما تعانيه الأمة من أزمات اليوم”.
إﻻ أن الروائي القصبي يؤكد رغم ذلك أن ما يجري هو سردية عبثية تتوقف عن سؤال ماذا حدث، من دون الولوج إلى لِمَ وكيف حدث وعن طبيعة تداعيات الحدث سياسيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا وثقافيًا.
أما الصحافي محمود علام، فطرح تساؤلًا فحواه: ماذا فعل إعلام الأمة في وقت تحتاج فيه لشحذ الهمة؟ وتحدث عن الآليات الواجب اتخاذها من أجل النهوض بإعلام يعبر عن المطلوب من الأمة وليس إلى حالها فقط، وقال: كل ما نشهده منذ عقود يندرج معظمه تحت شعار هدم رموز الأمة عبر تاريخ متواصل.
وأضاف: أن أولئك الرموز كانوا وسائل تنوير ودعاة تطوير في أزمانهم التي لم تكن تفتقر إلى مشاعل تنشر بالفكر وبالجهد.
ونوه بأن الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة بحاجة لما يرفع عن أبناء الأمة الجهل؛ جهل يتبعه خوف وتردد وخور في دخول معارك وتحديات الدهر.
وهنا يستشهد علام بالظاهر بيبرس ويقول: “هو ليس استثناء عن كل الرموز المجاهدة من أجل الغد الآمن”، لافتا إلى أن هذه الرموز تواجه تجاهلًا متعمدًا -إن ظننا بحسن النوايا- أو استخفافًا بل وعداء إلى حد الاتهام بالخيانة على يد من ارتموا بكامل إرادتهم في أحضان الغرب غدرًا، سواء كان أهدافًا أو أدوات أو أحلاما، حتى نقعوا ببئر الخيانة لصالح أعداء الأمة وأنصار تجريف الحياة العربية فكرًا وعملًا وثروة بشرية ومادية.
وقال: “برغم الأوضاع الكارثية لا تزال معارك الإفك مستمرة لتجريد الأمة من تاريخ مشرق بغية الوصول بها إلى النفق المظلم الذي يفقدها الإرادة في حياة أفضل”.
وتابع: “الإعلام العربي في معظمه، وبالذات في الوقت الراهن، فقَدَ دوره التنويري تجاه ماضيه وحاضره مثلما فقد دوره التوجيهي في استشراف المستقبل العربي”. وقال: “تلك هي الطامة الكبرى التي تأخذ الجميع إلى شفا جرف منحدر”.
وأكد على أن تصحيح هذا القصور الإعلامي لا يتحقق بمعزل عن مجمل التوجهات المجتمعية رسمية أو شعبية، بإطلاق روح جديدة تستلهم من التاريخ شخصيات لها بصمات وأثر، وأحداث تفيض بالدروس والعبر،
وقال: “لا ننسى أن إعلام الأمة بشتى تياراته أصبح أسيرًا لشعارات كل مرحلة، ولا يغرد منه خارج السرب إلا ما ندر منه”.
وحول البدائل الممكنة يقول: “إنها أسرع وأجدى وأكثر فائدة لو جاءت من أعلى، ومن قلب القمم المسيطرة على حركة المجتمع؛ إعلاميًّا وأكاديميًّا ورسميًّا وشعبيًّا وتعليميًّا، مع التركيز على وضع البرامج والخطط الواضحة”.
وأوضح أن الأمة لو أرادت تعويض ما فاتها والبدء في مرحلة توعوية جديدة بإنجازات كل الشخصيات المتميزة في تاريخنا فإن لديها عشرات بل مئات الشخصيات الرمزية، التي يمكن أن ننهل منها القيمة والفكرة والاستلهام.
أما الصحافي مجدي كامل، “رحمه الله تعالى”، وهو من رواد الصحافيين والمترجمين في مصر، وله من الكتب المترجمة نحو 35 كتابًا وآخرها بعنوان: “100 خطأ غيرت مجرى التاريخ” لـ “بيل فاوست”، فيرى هو الآخر أن بيبرس لم يحظَ بما يستحق من مكانة لا في كتب التاريخ ولا في الصحافة العربية.
وأضاف: “رغم ما قدمه في الحروب الصليبية إلا أن المؤرخين العرب والنخب إضافة إلى المؤسسات الرسمية لم تمنحه ما يستحقه من مكانة”.
التقط الصحفي سعيد الشحات مبكرًا هذا العبث الذي يجري في تغافل سيرة بيبرس في تاريخ الأمة، فكتب مقالة له في الأول من يناير 2009 مما جاء فيها أن بيبرس توحَّد مع الوصفة السحرية لكل حاكم يجلس على عرش مصر، وهي “فهم الدور التاريخي” الذي لا ينكفئ على الداخل، وإنما قوة الداخل تبدأ من القوة خارج الحدود.
لأجل هذا خلدته السيرة الشعبية، وخلدت عصره، ومنحه الشعب العربي في مصر والشام حبًّا ومجدًا؛ لأنه عمل لها، ولم يعمل لنفسه.
وعلى حدِّ تعبير الشحات، أن بيبرس ليس ابن زمنه، وإنما ابن كل الأزمنة العربية، ففي انكسارها نتذكر مجده، ونتغنى به، وفى انتصارها نتذكره بوصف الانتصار موصولًا بتاريخه.
وأضاف: أن “هزيمة الأعداء تبدأ بالوحدة، وهو ما جعل بيبرس يركز على ذلك بشدة، حتى جعل من القاهرة منارة للحضارة يلجأ إليها الجميع”.
ويصف “الشحات” الظاهر بيبرس، بأنه فارس، وأمير، وسلطان، قتل قطز الذي قاد جيش المسلمين لهزيمة التتار في معركة عين جالوت، ورغم ذلك خلدته الذاكرة الشعبية كونه صاحب بطولة، وصنعت له سيرة تتغنى بها، فلماذا تسامح معه المسلمون في قتل قطز الذي أحبه الناس، ولماذا رفعوه في خيالهم إلى درجة أصحاب الخوارق الذين في مقدورهم فعل أي شيء، لا يستطيع الآخرون فعله؟
ويقول الشحات: “لم يكن بيبرس مصري الأصل، ومن ثم ليس عربيًّا، لكن الذاكرة المصرية والعربية خلدته بوصفه قائدًا إسلاميًّا فذًّا، وخلدته الذاكرة المصرية، خاصة بوصفه ابن تاريخها، لم تلتفت إلى أنه مملوكي، جاء من بلاد غير بلادنا، ورغم كل ذلك نظر إليه المصريون بوصفه واحدًا منهم فلماذا؟ هناك عوامل تصنع أسطورة أي قائد، وترفعه في وجداننا إلى مرتبة أصحاب الخوارق، وأهم هذه العوامل على الإطلاق هي فهم هذا القائد للدور التاريخي المنوط به والعمل من أجله، على أن يوحد هذا الدور الناس ولا يفرقهم”.
ويختم الشحات مقاله بالقول: “بيبرس بمجمل تلك الإنجازات وغيرها التي لا يتسع المجال لذكرها جعل من دولته دولة فتية، لها كلمتها المسموعة، وصارت القاهرة على حد وصف الدكتور قاسم معقلًا وحصنًا للحضارة العربية الإسلامية منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري، وقصدها الفنانون والعلماء والفقهاء والصناع ورجال السياسة والباحثون عن الأمن والاستقرار”.
ولم يبتعد الدكتور السيد الطنطاوي كثيرًا عن موقف مواطنه الشحات فيقول: “إن الصحافة والإعلام العربي عمومًا في العصر الحديث لم يقوما بدورهما في هذا الموضوع، لكنه يشير إلى أن هذا مرض لا يتعلق فقط بظاهرة بيبرس بل تمتد إلى معظم الملفات والشخصيات التاريخية”.
وينوه إلى أن التصحيح يأتي من تبني بعض المؤسسات الإعلامية المهتمة والمعنية بهذه الشخصيات من خلال متخصصين ومن خلال النشر في المجلات، أو تأليف الكتب، وإلقاء الضوء على إيجابيات الشخصية.
لكنه يدرك أن هذا بعيد إن لم يكن هناك مشروع بحجم الأمة لذلك، على أنه يعود ويقول: “على الأقل يجب تضافر جهود الذين يؤمنون بالفكرة”.
كما توقف عند نقطة في غاية الأهمية وهو يقول: هناك أهمية للرد على بعض المشككين العرب في هذه الشخصيات، وهو ما تعرض له الظاهر بيبرس إضافة إلى صلاح الدين الأيوبي. وقال: “هذا عاتق يجب أن تقوم عليه الجامعات وكليات التاريخ وأساتذتها”.
أما المحاضر والإعلامي في جامعة الأمة بفلسطين، ومدير عام المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام غسان رضوان، فيرى أن القائد بيبرس فهم الدور التاريخي للحاكم الصالح؛ ولأجل ذلك خلدته السيرة الشعبية وخلدت عصره، ومنحه الشعب العربي في مصر والشام حبًّا ومجدًا لما قام به من دور مهم في تاريخ الأمة.
وقال: “إنجازات الملك الظاهر عظيمة ومشرفة، وبرغم ذلك لا يوجد تركيز عليها بالشكل المطلوب، الذي يستحقه هذا البطل”.
وأضاف: “ما يجري تناوله فسرد تاريخي، وليس تحليلا وأخذ عبر واستفادة من مواقفه ونظامه وحكمه وإدارته له، ومن هنا ظلم العرب ملكهم بيبرس”.
ويشير إلى أن من أعظم إنجازات بيبرس الخالدة أنه فهم الدور التاريخي المنوط به؛ وهو تحقيق المشروع الإسلامي الكبير، بطرد الصليبيين من أرض المسلمين، والقضاء على المغول، ثم اتبع سياسة أدت إلى مد دولة المماليك على كل المنطقة العربية، حتى أصبح صوتها مسموعًا في جميع أنحاء العالم.
وينوه المحاضر والإعلامي في جامعة الأمة بفلسطين، ومدير عام المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام غسان رضوان إلى أن وسائل بيبرس لتحقيق دوره لم تكن مقصورة على الدور الخارجي فقط، وإنما امتدت إلى العامل الداخلي من تشييد وبناء وعدل وتأسيس نظام دولة، وثنائية بناء الداخل والخارج.
لهذا يرى رضوان ضرورة التركيز إعلاميًّا على مواقف بيبرس الخالدة وإنجازاته من خلال العودة إلى تاريخه عبر الوسائل كافة، بل إنه دعا إلى تشكيل لجنة متخصصة من الإدارة والتربية والتاريخ والسياسة لإعادة كتابة ونشر بعمق وتحليل إنجازاته.
ويقول: “علينا أن نرى بيبرس في المنبر على لسان الخطباء كما نراهم في المحاضرات الجامعية والمدارس، يُدرَّس ليس نظريًّا بل عمليًّا بهدف إيجاد نماذج ورموز لغرس المفاهيم الأساسية لتاريخه في نفوس الأمة، ونشر مواقفه بحلقات مرئية ومسموعة ومحاكاة مع مشاهدين و”متلقين.
لكن ماذا عن الجانب الإعلامي؟ مدير عام في وزارة الإعلام في فلسطين مؤمن عبد الواحد يؤكد قلة الأدبيات التي تتحدث عن الظاهر بيبرس، إعلاميًّا، مشيرًا إلى أن الصحافة العربية لم تقم مطلقًا بدورها الواجب القيام به تجاه الشخصيات التاريخية والإسلامية، وخصوصًا تلك الفترة التاريخية، خاصة وأنها فترة ليست بعيدة عن واقعنا المعاصر.
وطالب بتصحيح الأخطاء التاريخية التي تسرَّبت عن حقبة الظاهر بيبرس ودراستها بعناية، بل وطالب بالبدء من جديد في توعية الشارع العربي والمسلم بإنجازات مثل هذه الشخصيات التاريخية، وعدم التركيز على أخطائهم أو سلبياتهم في فترة زمنية ما.
أما عن الأدوات المطلوبة لتصحيح الخطأ التاريخي فهي كثيرة ومتنوعة اليوم؛ من أدوات التواصل، ويوتيوب، وكذلك الكتب، والدراسات، والبرامج التلفزيونية، والبرامج الإذاعية، إضافة إلى الندوات، واللقاءات المفتوحة.
وبحسب مدير عام في وزارة الإعلام في فلسطين مؤمن عبد الواحد فإن هناك جدلًا كبيرًا حول شخصية الظاهر بيبرس كونه يميل الكثيرون وعلى رأسهم ابن كثير في “البداية والنهاية” بأنه من شارك قطز، خلال عودة النصر ما بعد معركة عين جالوت هذا الانتصار العظيم. على الرغم من أن المسلمين في حينها كانوا يتجهزون على أبواب القاهرة لاستقبال المنتصر قطز.
كما لا يتفق عبد الواحد مع التركيز فقط على أخطاء العظماء، مشيرا إلى أن المطلوب التركيز على إنجازاتهم أيضًا كي لا نفقد القدوة في نظر أبنائنا والأجيال المقبلة، مؤكدًا أن المطلوب اليوم وبإلحاح هو عمل ممنهج لكل الشخصيات التاريخية والعظيمة والدفاع عنها؛ ذلك أنها إرث حضاري على الأمة المحافظة عليه بكل الأدوات المتاحة اليوم.
الصحافي محمد الصدفي له رأي آخر في شأن سيرة بيبرس عن العرب فيقول: “إن حظ الملك الظاهر لم يغبْ عن الذاكرة الجمعية عند المسلمين والعرب المعاصرين، وهذا لم يكن متاحًا لكثير من عظماء ورموز المسلمين الذين خطّوا بتاريخهم أمجاد الأمة”.
وعن ذلك يقول: “ربما يكون الظاهر بيبرس أفضل حظًّا من شخصيات وحكام وخلفاء كان لهم الفضل في نهضة البلاد التي حكموها وتحقيق انتصاراتها”.
ويشير: “رغم كل ما يجري تقديمه على الشاشة إلا أن هناك مَنْ يحاول فعل شيء وإن كان غير كافٍ، فوجود مسلسل سوري باسمه يدل مثلًا على إدراك الأهمية التاريخية لهذا الملك في هذه المنطقة، إضافة إلى صناعة فيلم سينمائي باسمه، عدا عن عدد من الأعمال الإبداعية، ومنها وإسلاماه لعلي أحمد باكثير”.
برغم أن الصحافي محمد الصدفي يدرك أن هذا لا يكفي لكنه في المقابل وهو يشير إلى هذه الأعمال يريد الاستدلال على أن الأمة لم تغفل الظاهر بيبرس كما فعلت مع الكثير من عظمائها؛ لهذا هو يقول: “بالتأكيد إعلامنا العربي يقصر كثيرًا مع بيبرس وغيره من الحكام، لكن بيبرس على الأقل نال حظًّا ما، أمام حفلة النسيان التي يتعرض لها الكثير من الرموز المسلمين في التاريخ”.
ولا يرى الصدفي من حل إلا أن يجري التركيز على هؤلاء العظماء وتاريخهم، ومن كانت لهم بصمات وأعمال جليلة في نهضة البلاد وخدمة العباد، وذلك بتسجيلها ضمن المناهج الدراسية لتعريف الأجيال جنبًا إلى جنب الأعمال السينمائية التي تعلق في أذهان الناس.
ويقول: “أكثر من ذلك نحن بحاجة إلى أعمال وثائقية تسجيلية تدعم فكرة النهوض برموز الأمة في عقول أبنائها”.
أساتذة التاريخ:
لقد ظل الإعلام العربي مشغولًا بالأحداث الآنية واليومية المتسارعة، مهملًا التركيز والتبحر والبحث في شخصية فذة مثل بيبرس، وغيرها من شخصيات الأمة. وهذا هو رأي الدكتور إبراهيم أحمد أبو شبيكة أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة في الجامعة الإسلامية الذي قال: “لم يشفع لشخصية بحجم بيبرس كل الآثار السياسية والمعمارية والثقافية التي أنجزها، فبقيت أدبيات الأمة قاصرة، لكنه قصور يعبر عن ضعف عام شمل التاريخ بعد أن فقد الحاضر”.
ومن هنا يرى الدكتور أبو شبيكة أن البداية قد تكون موفقة لبناء المتاحف التي تضم جزءًا من تاريخه، إضافة إلى توجيه رسائل إلى كل وسائل الإعلام بمختلف مساراتها المكتوبة والمرئية والمسموعة من أجل النهوض بقادتنا التاريخيين وإنجازاتهم كما يفعل الغرب تجاه قادتهم.
وقال: “يجب العمل على التعريف بإنجازات هذا القائد التاريخي في مختلف المجالات كي نعطيه حقه.
إعلاميًّا: يجب الكتابة في الصحف بشكل ثابت.
أكاديميًّا: تخصيص محاور دراسية حول هذه الشخصية وإنجازاتها.
رسميًّا: من خلال المنظمات العربية ذات العلاقة يجب التحدث عنه (جامعة الدول العربية بمختلف هيئاتها).
شعبيًّا: من خلال الندوات وورش العمل، يجب إظهار دوره التاريخي.
تعليميًّا: من خلال المدارس يجب تخصيص وقت محدد لتناول نشاطه وإنجازاته”.
أما الدكتور أمين وافي أستاذ الصحافة المشارك بالجامعة الإسلامية في غزة، فيدعو حتى تعمل ماكينة الإعلام العربي كما يجب من دور مطلوب لنفض الغبار عن سيرة الظاهر بيبرس لضرورة توحيد الرواية الإعلامية تجاه هذه الشخصية التاريخية، والخروج من مظلة التبعية الإعلامية الأجنبية، وتوظيف الإعلام العربي في خدمة القضايا العربية، والنهوض بها وإظهارها لكل الإنجازات الحضارية.
كما طالب باستثمار كل وسائل التكنولوجيا الحديثة وتطويعها من أجل إظهار الوجه المشرق لهذه الشخصية التاريخية وإنجازاتها الحضارية التي لا تزال شاهدًا حتى اليوم.
أما أستاذ التاريخ المملوكي بجامعة الأقصى الدكتور نسيم أبو شلوف في مدينة غزة، فقد انتبه إلى أن بعض الصحف المصرية منذ أواخر الستينيات تتناول إنجازات الظاهر بيبرس الحضارية في مصر وفلسطين، بالاستدلال بإنجازاته ومقارنة الواقع المؤلم للحالة المصرية.
وأشار إلى أن من الضروري وجود البدائل لإظهار إنجازات هذه الشخصية التاريخية، تبدأ من خلال المؤسسات الرسمية التي تأخذ على عاتقها نشر تاريخ هذه الشخصية؛ وصولًا إلى كتابة المقالات، وذلك من خلال توعية الجماهير العربية بالعمل الجهادي الذي قام به الصليبيون في العهد الأيوبي والعهد المملوكي.
كذلك يتوجب على كل مؤسساتنا التعليمية والأكاديمية والرسمية وشبه الرسمية إصدار نشرة توعوية حول إنجازات الظاهر بيبرس.
أما الدكتور جهاد أبو طويلة عميد كلية الآداب جامعة الأزهر بمدينة غزة، فإلى جانب دعوته إلى النهوض بالإعلام العربي بشكل عام كي يظهر الوجه الحضاري لكل الشخصيات التاريخية وإنجازاتها التي لا تزال شاهدًا عليهم، يقول: يجب العمل على توحيد كل الطاقات الرسمية والشعبية والأكاديمية، وذلك من خلال النافذة الإعلامية التاريخية من أجل إظهار الشخصيات التاريخية ونشاطاتها وإنجازاتها، خصوصًا التي لا تزال شاهدًا على التاريخ الإسلامي والذي تحدى (الاحتلال الصليبي، والمغولي، والتتار) وبناء الدولة الإسلامية.
فيما يقول المستشار والباحث في مركز مسارات الدكتور عمار أبو رحمة، إن وسائل الإعلام العربية عاجزة عن إظهار إنجازات أي شخصية تاريخية في الوقت الحالي؛ وذلك لكونها وسائل غير مستقلة، تابعة لأنظمة وأجندات خارجية تسلبها إرادتها في نقل الصورة الناصعة عن التاريخ الإسلامي، أضف إلى ذلك أنها لا تعود إلى النماذج التاريخية التي قد تكون منارة للأجيال التي تعمل على النهوض بالحضارة الإسلامية.
ويرى وجود قصور فكري وبحثي حيث تعودنا على أن نتلقن التاريخ كما كُتب دون البحث والتبحر في أعماق المصادر والمراجع التي كتبت في حقبة زمنية محدودة.
ودعا إلى العودة إلى الكتب التاريخية، وإعادة قراءتها وتحليلها للوقوف على مواطن الفشل واستنباط الدروس حتى نتمكن من ربط الماضي بالحاضر، وذلك تحت مظلة إعلامية موحَّدة، إضافة إلى إعداد مشروع بحثي أكاديمي مضمونه هو إعادة قراءة التاريخ، وخلْق جيل جديد قادر على تصحيح المسار الإعلامي والأكاديمي لإظهار الإنجازات التاريخية والحضارية التي أُنجزت في فترة القائد بيبرس وغيره من القادة التاريخيين.
أما الدكتور غسان حرب، رئيس قسم الصحافة والإعلام بجامعة الأقصى الفلسطينية بقطاع غزة، فيستشهد بالمسلسل السوري للمخرج محمد عزيزة حول شخصية الظاهر بيبرس، ويقول: “الإعلام العربي لم يقم بأدنى واجباته؛ وذلك راجع إلى اختلاف الروايات حول شخصية الظاهر بيبرس. ورغم أن عمل محمد عزيزة كان عملًا جيدًا والمعالجة التاريخية كانت جيدة، إلا أنها غير كافية وحدها”.
ومن بين الأعمال الدرامية التي أُعدَّت عن الظاهر بيبرس المسلسل المصري للمخرج إبراهيم الشوالي، لكنه تناول الموضوع بصورة ركيكة، خلت من عمق فكري، أو زاوية تقديم للإنجازات الحضارية التي قدمها على صعيد مصر وبلاد الشام بشكل عام، ومنها ما قام به بيبرس ممن بناء نظام إداري جيد.
وحول تصحيح المسار قال: “يجب الاعتماد على عدة ركائز:

  • معرفة من هو الجمهور الذي توجه له رسالتنا الإعلامية (محلي، غربي، عربي، إسلامي).
  • ضرورة وضع خطة إعلامية جيدة على المستوى التعليمي من المراحل الدنيا حتى الجامعات.
  • تسخير كل الطاقات الإعلامية، والمالية، والبشرية، والعمل على استقلالها للنهوض بإنجازات هذه الشخصية التاريخية.
  • يجب تصحيح الرواية التاريخية؛ وذلك بالاعتماد على عدة مصادر ووسائط تاريخية.
  • يجب أن يكون الإعلام العربي موجهًا إلى كل العالم وبعدة لغات”.
    وفي الوقت نفسه ما زال الخذلان كما تقول الباحثة في التاريخ الإسلامي بالجامعة الإسلامية، معالي عبد السلام الحلبي، مستمرًّا من قبل الإعلام العربي لمعظم الشخصيات التاريخية الإسلامية التي لم تُعطَ حقها، وهذا ما ينسحب على الظاهر بيبرس وإنجازاته.
    وقالت: “يجب أن يوحد الإعلام العربي على مستوى وزراء الإعلام في كل حقبة تاريخية من أجل إنصاف تاريخ الأمة ورموزها، كما يجب توحيد الخطاب الإعلامي والأكاديمي والشعبي، وذلك من خلال تسليط الضوء على أهم الإنجازات التي قام بها الظاهر بيبرس”.

Mohamad

Related post

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *