السياسة والسعادة…في فكر الفيلسوف الكازاخي الفارابي

بقلم الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد
من المعروف عالميا بأن مكانة الفارابي (نصر محمد الفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، المولود عام 260 هـ/874 م في فاراب في إقليم تركستان، جنوب كازاخستان حاليًا)، في الفلسفة الإسلامية تناظر مكانة سقراط أو أفلاطون في الفلسفة اليونانية، حيث كان أيضا يعرف في العالم الغربي باللغة اللاتينية باسم (Alpharabius)، رجلاً مسلمًا متعدد جوانب الثقافة، ويُعد واحدًا من أعظم العلماء والفلاسفة في بلاد فارس وفي العالم الإسلامي في عصره (في أواخر القرن التاسع وفي بداية القرن العاشر الميلادي). كما كان عالمًا كونيًا وعالمًا بالمنطق ومُؤلفًا موسيقيًا وعالمًا نفسيًا وعالمًا اجتماعيًا. وكان مُؤسسًا بارزًا لنظام فلسفي حيث كرس نفسه وعلمه تمامًا للتأمل والتفكّر وأبقى نفسه بمعزل عن الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية.
ترك الفارابي وراءه محتوى كبير من الأدب، وبجانب تلاميذه المباشرين، كان هناك العديد من الذين درسوا أعماله بعد أن وافته المنيّة وأصبحوا بعد رحيله أتباعًا له. وحددت فلسفته معيار التكهنات العلمية في الشرق والغرب على حد سواء بعد وقت طويل من وفاته.
وبينما كان الفارابي يعيد صياغة الآراء الفلسفية لأفلاطون وأرسطو وغيرهم من المُفكّرين اليُونانيين، كان يضع دائمًا نصب أعينه المعتقدات الإسلامية التي قد شكّلت الروابط الداخلية لكتاباته، فقد سار على نفس منوالها في فلسفته السياسية، وأخذ يطور النظام الخاص به مُتأثرًا بأفلاطون وأرسطو والذي يختلف بشكل ملحوظ عن النظام الذي طوّره الاغريق والإيرانيون وكذلك الهنود.
ومن بين آراء الفارابي وفلسفته الحياتية، رأيه حول المجتمع والدولة، حيث يرى بأن النسج والمؤسسات الاجتماعية الصحّية أمر ضروري من أجل تشكيل مجتمع أفضل. فوفقًا له، تُعد دولة المدينة ودولة العائلة أماكن تحتوي على ساكنين، بغض النظر عما إذا كانت مساكنها مبنية من الخشب أو من الطين أو من الصوف أو من الشعر، حيث يقتصر المنزل أو العائلة على العلاقات الأربعة فقط القائمة بين الزوج وزوجته، والقائمة بين السيد وعبده، والقائمة بين الأب وابنه، والقائمة بين المالك ومالكه.
ويُطلق الفارابي على من يجعلهم متوحدين في التعاون ويهدف إلى توفير مسكنًا لهم به أفضل المرافق وأعمال الصيانة سيد الأسرة، فمثل ما يفعله في مسكنه مثل ما يفعله المسؤول عن مدينته في المدينة.
ومن وجهة نظر الفارابي، يكون الرجال بتشكيلهم بطبيعة الأمر في حاجة إلى العديد من الأشياء من أجل تحقيق أفضل إنجازاتهم. وبالتالي، فهم في حاجة إلى الحصول على المساعدة والتعاون المتبادلين من كل شخص يبذل أقصى ما في وسعه من أجل الحصول على نوع مُعيّن من الأهداف. وهكذا، من خلال توحيد جهودهم الفردية من أجل تحقيق أهداف مُختلفة، فإنهم يقومون بتنظيم مُجتمعات مُختلفة.
وكلما زاد حجم المُجتمع، أصبحت المرافق التي يحققها من أجل أفراده أفضل، حيث لا يقتصر تجميع الرجال على منزل ما يقوم بتوسيعه إلى حارات ومناطق محلية وقرى وبلدان ومدن. فالرجال يعملون على تحقيق رفاهية المجتمع، ويخدمون على المدى البعيد الدولة. ويطلق على الناس الذين يعيشون في دولة ما قوم (أمة). ويمكن تمييز أمة واحدة عن أمة أخرى عن طريق الشخصية الطبيعية والمزاج والعادات واللغة.
وتكون المجتمعات البشرية إما مثالية أو غير مثالية. وقد يكون المجتمع المثالي مجتمعًا عظيمًا أو متوسطًا أو صغيرًا. والمجتمع البشري العظيم هو ذلك المجتمع الذي يتكون من أقوام عديدة توحّد أنفسها في وحدة واحدة، وتساعد بعضها البعض. والمجتمع البشري المتوسط هو ذلك المجتمع الذي يتكون من قوم واحد في أحد أجزاء العالم، والمجتمع البشري الصغير هو ذلك المجتمع من أشخاص يعيشون في مدينة ما. أما المجتمع البشري غير المثالي فهو ذلك المجتمع من الأشخاص الذين يعيشون في قرية أو منطقة مجاورة أو حارة أو منزل ما، حيث يكون الأخير (المنزل) هو الأصغر حجمًا.
والآن، يتم تحقيق المجتمع البشري الأعلى مستوى من الخير والمثالية في المقام الأول من خلال الإرادة والرغبة. وبالمثل، يجد الشر نطاقه من خلال الإرادة والرغبة. وبالتالي، يمكن أن تتطور دولة المدينة من خلال المساعدة والجهود المتبادلة من أجل تحقيق بعض الأغراض الشريرة أو من أجل تحقيق السعادة. والمجتمع الذي يتعاون فيه أعضاؤه من أجل تحقيق السعادة هو في الواقع دولة المدينة المثالية. ففي هذه الدولة، يساعد مواطنوها بعضهم البعض من أجل تحقيق صفات التميز العظيم الذي يعيشون من خلاله على أفضل نحو ويتمتعون بالعيش في أفضل حياة على الدوام. ولكنهم إذا ساعدوا بعضهم البعض من أجل الحصول على الضروريات الأساسية للحياة والحفاظ عليها، يتضح أن دولة المدينة هذه هي الدولة الضرورية.
ويؤكد الفارابي على ضرورة وجود الدولة المثالية من أجل تحقيق سعادة قاطنيها. ومع ذلك، فإنه يزيد من توسيع نطاق نظريته إلى جوانب أخرى معينة كذلك. فهو يوضح أنه عندما تُشكّل العوامل البشرية أو الامتيازات الأربعة والفضائل التأملية والفضائل النظرية والفضائل الأخلاقية والفنون العملية سمات قوم ما أو شعب ما في إحدى المدن، تكون سعادتهم الدنيوية في هذه الحياة وسعادتهم الدائمة في الحياة المقبلة مؤمنًا عليها.
ويقول الفارابي، تعليقًا على قادة الدولة وصفاتهم، بأن رئيس الدولة يجب أن يتحرر جسديًا من جميع العيوب، وينبغي أن يتسم فكره وذاكرته وذكاءه بالحدة. وينبغي أن يكرس نفسه لدراسة العلوم ولحب الصدق وألا ينزعج بسهولة من الصعوبات، وأن يكون قانعًا دون أن يكون طامعًا في الحصول على ما لا يحل له، وأن يطمح إلى المثل العليا، وأن يكون محبًا للعدالة دون التفكير في الثروة أو في الحصول على مكانة دنيوية، وينبغي أن يتمتع بقوة في اتخاذ القرارات وبالجرأة وبالشجاعة.
كما وُصف ملك الفلسفة أفلاطون بأنه محب للصدق، وأنه مُغرم بمعرفة الوجود، وأنه ينأى بنفسه عن الرذيلة، وأنه ذو فكر حر، وأنه حاذق وذكي وطموح. ولكن دولة الفارابي ذات سمة دولية. ويريد أفلاطون أن يوكل شؤون الدولة إلى مجموعة من الفلاسفة وإلى أسماء تنظيم وهو “الأرستقراطية”. حيث لا يطلق الفارابي على رئيس الدولة اسم الإمام فحسب، ولكنه يحدده أيضًا بالنبي. فهو يُوكل شؤون الدولة إلى مجموعة من الأفراد يمتلكون فيما بينهم معظم سمات الرئيس في غياب الإمام أو الرئيس الثاني الذي لديه الصفات الضرورية لاتباع تقليد الإمام. وبالتالي، ليس صحيحًا أن نقول بأن الفارابي قد بنى نظريته بالكامل على جمهورية أفلاطون، أو بأنه ببساطة يتبّع فكر أرسطو في تفكيره.
وبالنظر إلى نظريات الفارابي، نستنج بأنه هناك العديد من الأفكار التي يمكن أن تكون مُفيدة لنا كأمة في إيجاد طريقنا، وفي إيجاد طرق لتحقيق السلام والسعادة. فهناك رسائل واضحة مفادها أننا في حاجة إلى مزيد من التركيز على الحياة الاجتماعية، وإلى محاولة تعزيز روابط الأخوة الموجودة بيننا. ومن ناحية أخرى، هناك اتجاهات واضحة للغاية بالنسبة لقادة الدول ورؤسائها. فإذا اتُبعت بعض من هذه الاتجاهات بأمانة وأذهان وبقلوب صافية يمكن أن تعلّم حقًا نُخبنا الحاكمة بعض من القواعد الذهبية والتي من شأنها أن تساعدهم هم وشعوبهم ككل على تحويل مجتمعهم إلى مجتمع أفضل، وعلى تحقيق النعيم والرضا من أجل أن ينعموا به جميعًا.
العلاقة بين السياسة والسعادة
إن السعادة هي واحدة من أغلى الأهداف التي يحتاج البشر إلى الوصول إليها. حيث يُولي الفارابي، الذي يحظى بمكانة مهمة للغاية في تقليد الفكر الإسلامي، قيمة خاصة لمبدأ السعادة. فهو يرى في فهمه للسياسة بأن الإنسان لديه موضع مركزي، ويكون منتصف الفلسفة السياسية هو كيفية تأسيس مدينة فاضلة ودولة فاضلة. وهنا، تكون الصلة بين السعادة والسياسة أمرًا حتميًا. وفي هذا السياق، يمكن الوصول إلى المدينة الفاضلة فقط عن طريق تنظيم سياسي. ويحتاج التنظيم السياسي الفاضل إلى نظام سياسي في الكون سوف يتطلب من الآخرين الوصول إلى السعادة. وداخل هذا النظام، يكون الرئيس هو الشخص الذي يتحلى بجميع فضائل الإنسانية. ووفقًا لرأي الفارابي، يكون هدف الإنسان هو الوصول إلى السعادة العليا.
مولده
ولد فارابي، الذي يعتبر بأن السعادة هي الغرض من الحياة 1 في بلدة فاسيك، مدينة فاراب بتركستان في عام 870. واسم الفارابي الكامل هو أبو نصر محمد ه ترهان ه يوزلوج (يوزالاج) أي الفارابي. ومعروف عنه كونه فيلسوفًا تركيًا. وهذا الاسم في الأصل تركي من آسيا الوسطى، وهو أحد المُفكّرين الإسلاميين. وذهب الفارابي إلى بغداد حيث درس هناك النحو والمنطق والفلسفة والموسيقى والرياضيات والعلوم. واكتسب شهرة أكبر مع التعليقات التي كتبها عن أعمال أرسطو المنطقية. وعلى وجه الخصوص، أصبحت أطروحاته حول الطب والموسيقى أطروحات مُوحّدة. ولكن بسبب إسهاماته في الفلسفة الإسلامية، لا يزال اسمه حيًا بيننا.
ولقد كان الفارابي الذي يُعد أحد أهم مفكري الفلسفة الإسلامية معروفًا لدى العلماء العرب بأنه “السيد الثاني” (بعد السيد الأول وهو أرسطو). ولسوء الحظ أنه لم يترك لنا أي سيرة ذاتية عنه. وبالتالي، فإن الكثير عن حياته مجهولاً نسبيًا بالنسبة لنا. ويُعتبر أبو نصر الفارابي على نطاق واسع بأنه مؤسس الفلسفة داخل العالم الإسلامي. وبالرغم أنه كان لديه بعض أسلافه الجديرين بالملاحظة مثل الكندي والرازي، إلا أنه كان أول فيلسوف في عصره يحظى بالاحترام المطلق من الأجيال المستقبلية.
ووصف تي جي دي بور الفارابي بأنه رجل هادئ يرتدي ثيابه الصوفية، وأنه رجل كرس حياته للفلسفة والتأمل. وعاش الفارابي في بغداد. وتُوفي رجلاً مسنًا في عام 950 ميلاديًا/339 هجريًا. ولم يكن ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الحاكمة مثل الكندي، أكثر فيلسوف نفوذًا في القرن السابق لوفاته، ولم يشغل أبدًا أي منصب سياسي مثل ابن سينا (الذي ولد بعد وفاته بنحو ثلاثين عامًا)، ولم يصبح مسؤولاً رفيع المستوى في التسلسل الهرمي الديني كرئيس للقضاة مثل ابن رشد في القرن الثاني عشر وابن خلدون في القرن الرابع عشر. وهو واحد من أكثر الفلاسفة الإسلاميين جاذبية، وربما الأكثر جاذبية فيما بينهم.
ويُعد الفارابي، الذي له دور مؤسس في تقليد الفلسفة الإسلامية واحدًا من أكثر الفلاسفة تفردًا الذي قد ابتكر المنتجات الأصلية والإبداعية في مجالات الفلسفة تقريبًا في ميدان السحر، حيث بدأت الدراسات المنطقية الحقيقية في العالم الإسلامي مع الفارابي. وسمح له نجاحه في المنطق وفي أعماله الأصلية المتنوعة بأن يُطلق عليه اسم “المُعلّم الثاني” (al-Mou’allim al-Thani) بعد أرسطو. ولاحظ ابن سينا بأنه تمكّن من حل مسائله فقط عن طريق قراءة كتب الفاراربي، حيث كان الفارابي يرى العالم فقط في ضوء التوحيد الإسلامي، وكان يفكر ويفهم كل شيء على أساس التوحيد. وفي نفس الوقت، تُعتبر أفكار وآراء الفارابي في جوهرها امتدادًا لمفهوم التوحيد.
وتُعد مدخنة تصدر دخانًا وحقل مزروع ومدينة مُؤهلة وأسرة مُحبّة وحوار جيد وصداقة دونما مصلحة خاصة وفهم مليء بالمعرفة وأفعال تستند إلى الاختيار وشخصية جيدة وهدف جيد رموزًا للسعادة، ففي فلسلفة الفارابي، يشغل مفهوم السعادة والحياة الجيدة مكانة مُهمة. حيث يحتاج البشر إلى مساعدة الآخرين من أجل وصولهم إلى السعادة. وبهذا المعنى، يمكن قراءة التنشئة الاجتماعية كخطوة مُهمّة نحو تحقيق السعادة. حيث لا يمكن أن تكون التنشئة الاجتماعية للبشر في مكان أصغر من المدينة، وهذا هو السبب وراء الحاجة إلى وجود مدينة فاضلة. وباعتباره أحد الفلاسفة الإسلاميين، فلقد ركّز الفارابي على الأخلاقيات والسياسة في نظامه الفلسفي. وفي هذه الدراسة، سوف ندرس أفكار الفارابي، الذي يُعد واحدًا من أهم الباحثين في مجال الفلسفة الإسلامية، الذي يتعامل مع السياسة والسعادة.
وبناءً على فلسفة الفارابي، فإن السبب الرئيسي للسلوكيات البشرية هو بعض المكونات مثل السعادة وعلوم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) والفضائل والعلوم. ولم يتطرق الفارابي، الذي يتمتع بمكانة خاصة في الفلسفة الإسلامية 16 إلى موضوع السعادة وهي الهدف النهائي للإنسان فحسب، ولكنه تطرق أيضًا إلى الأعمال المنفصلة المُتعلقة به. فهو يرى حياة السعادة كغرض للوجود. ووفقًا له، كان الناس موجودين ليكونوا سعداء. فالسعادة مخلوقة ذاتيًا.
ويعتبر الفارابي بأن الفلسفة صالحة على المستوى العالمي. فهي تُعبّر عن الحقيقة في الفكر التجريدي الذي تتشابه محتوياته في كل مكان ولا تتغير من أمة إلى أمة بل من دين إلى دين. وينقل الدين نفس الحقيقة للفلاسفة وعلى وجه التحديد لغير الفلاسفة (الذين يشكّلون الأغلبية) بشكل رمزي، ولا يتم الاعتراف بهذه الرموز على المستوى العالمي ولكنها تختلف من أرض إلى أخرى. وبالتالي، ربما لا يضع الفيلسوف الحقيقة في علوم ما وراء الطبيعة فحسب، ولكنه ربما يضعها كذلك فيما يتعلق بالاتحادات السياسية، وهذا هو ما فعله الفارابي بالفعل. ولا يوجد أدنى شك حول عالمية الفلسفة لأن طريقة الوصول إلى حياة سعيدة ترتبط بشكل فردي وبطريقة إدارية على حد سواء بحقيقة أن الأشخاص يستفيدون من تراكم الفلسفة ويضعون هذا التراكم في حياتهم.
وعند النظر إلى عمل الفارابي وإلى المدينة الفاضلة وخصائص القادة والحُكّام والإدارة وتشكيل الحكومة والمُجتمع ومفهوم السُلطة ومصدر السُلطة، فإننا نجد تداخل المواقف الإنسانية والدينية في عمله. ونجد بأن الموضوع الرئيسي لفلسفته السياسية هو “الإدارة الفاضلة” ونجد كيفية إسنادها. وفي أعماله السياسية، قام بتحليل نقاط ضعف الحكومات، وسعى إلى الحصول على القيادة المثالية والكيفية التي يمكننا بها أن نضعها موضع التنفيذ. وكانت الإدارة التي لا تشوبها شائبة هي ما يوليه أكبر اهتمام. ونظرًا أن الأشخاص يُشكّلون اتحادات كضرورة، فإنهم يهدفون أيضًا من ذلك إلى تحقيق أفضل شكل لهم. وتُصاغ الصفات التي يتحلى بها قائد ما في الإسلام والتي تبين الطريق إلى تحقيق الإخاء العالمي. كما تدرّس الفلسفة كيفية اتباع الطريق الذي يؤدي إلى المدينة الفاضلة المثالية. وبالتالي، يجب أن تكتسب الحكومات المعرفة الفلسفية. ويمكن أن يفهم الإنسان ترتيب الله للكون فقط من خلال التفكير الفلسفي.
وعندما ننظر إلى تاريخ البشرية، نجد بأن المجتمعات حاولت إنشاء أنظمة متنوعة بسبب ضرورة عيشها سويًا. وتتمثل إحدى التوقعات لبناء هذه الأنظمة الإدارية في الغرض من تسهيل الحياة البشرية. وفي النظام الذي قد وضعه الفارابي في ذهنه، يبدو المجتمع الفاضل ككل. وتُعد سمات وفضائل الحاكم الذي يتولى حكم مجتمعه شرطًا مسبقًا للسعادة.
مفهوم السعادة
يبدأ الفارابي قوله بأن هناك أربعة طرق لتحقيق السعادة الإنسانية في عمله. حيث تتمثل هذه الطرق في الفضائل النظرية وفضائل التفكير والفضائل الأخلاقية والفضائل العملية. أولاً، يُصنّف الفارابي الفضائل النظرية إلى فئتين: الفئة الأولى وهي المعلومات الموجودة في الإنسان دون أن يلاحظها أحد والتي تكون متأصلة فيه، أما الفئة الثانية فهي المعلومات المُكتسبة فيما بعد. وبطبيعة الحال، تكون المعلومات الموجودة هي فرضيتها الأولى. ونتيجة لهذه الفرضيات، يمكننا الحصول على معلومات جديدة. وبينما نحن ننظر إلى معلومات معينة على وجه اليقين، فإننا نتعامل معها بنوع من الشك. ولأننا في حاجة إلى تطبيق طريقة مختلفة في كل مسألة، يعتبر فارابي هذه الطرق المختلفة نوعًا من أنواع الفنون.
أما الشيء الذي يجعلنا نتعلم المعلومات المختلفة فهو معرفتنا الفطرية. وباختصار، يحتاج البشر إلى مجتمع وإلى التعايش مع هذا المجتمع. وبالتالي، يتم إعطاء الأشخاص اسمًا سياسيًا، حيث يرفع هذا الاسم الإنسان إلى مرحلة النضج، وبالتالي، تحدث علومًا جديدةً.
ويُعتبر تواصلنا مع شخصًا آخر ميلاً فطريًا. وهذا هو حال كل شخص. وبالتالي، تحتاج البشرية إلى الالتقاء مع بعضها البعض. فعندما ننظر إلى أحد الحيوانات، يكون لديه ميل إلى السعي إلى الحصول على مأوى له وإلى العيش مع نفس فصيلته. وبالتالي، يطلق على البشر حيوانات سياسية. وتجلب حقيقة أن الجنس البشري هو كائنات اجتماعية اتحادًا إلزاميًا مع أشخاص آخرين في المجتمع نظرًا أن الإنسان لا يمكنه توفير احتياجاته دون الحصول على مساعدة الآخرين. وتحدث هذه المسألة أيضًا في الحيوانات. ومع ذلك، يكون المُحدد الرئيسي الذي يُميّز الإنسان عن الحيوان هو قدرته على التفكير وعلى نقل تفكيره إلى نظير له.
وتختلف المؤهلات والمواقف في بلد ما عن تلك الموجودة في بلد آخر. فإذا كان هناك اعتقادًا بأن الأهداف جيدة في مكان واحد، من المعتقد أن استخدام الوسائل المفيدة من أجل الحصول عليها والفوز بها أيضًا أمرًا جيدًا. وعندما تواجه أمة أو مدينة حدثًا ما، يكون أكثر شيء مفيد لأغراضها الفاضلة هو فضيلة التفكير. ولا يوجد اختلاف بين الكلمات الأجمل منها والتي تكون أكثر إفادة لغرض فاضل. وحتى إذا واجه الإنسان كيانًا يتفوق عليه ماديًا، يمكنه رؤية المخاطر والتغلب عليها وذلك بمساعدة قوة تفكيره البشرية. هذا الاكتساب البشري قد جعله متفوقًا على جميع الكائنات الحية الأخرى.
وحسب الفارابي يجب أن يمتلك القائد قوة الفكر والفضيلة الأخلاقية التي قد اكتشف بأنه ويمتلكها، وهي أجمل قوة وأكثرها فائدة للمحاربين. وسوف تضرب الفضيلة التي سيحظى بها القائد مثالاً للأشخاص الآخرين يحتذوا به. وما نطلق عليه السعادة أمر مُحتمل مع تناغم فعل التفكير والأخلاقيات. فوفقًا لمفهوم الفارابي، إذا تم العثور على فضيلة التفكير مستقلة عن الفضيلة الأخلاقية، لا يبدو تحقيق الفرد للخير بامتلاكه الفضيلة وحدها أمرًا ممكنًا.
ويُعد فعل التفكير هذا فعل تفكير سياسي. وقد تستغرق الأهداف المشتركة وقتًا طويلاً أو تتغير في غضون فترات زمنية قصيرة. ويُعتبر فعل التفكير السياسي فضيلة تفكير تفجّر أكثر الأهداف إفادة بغض النظر عما إذا كانت قصيرةً أو طويلةً لأمة أو لمدينة ما. ومثلما لا يمكن للبشر الوصول إلى فضيلة بامتلاكهم قوة المعرفة، فإنهم لا يمكنهم الوصول إلى فضيلة أحادية الجانب دون امتلاكهم قوة فكرية.
ووفقًا لنهج الفارابي السياسي، ينبغي إسقاط الحُكّام إلى مراتب أصغر في الرئاسة، وينبغي أن يتقدموا تدريجيًا في هذه المناصب العليا حتى يبلغ عمرهم خمسين سنة. وبعد ذلك يتم تعيينهم في أعلى منصب في رئاسة الإدارة. ونظرًا أن الرئيس يحتاج إلى السلطة وأقصى براعة ممكنة تعينه على تشكيل عادات الآخرين، من المهم أن يأتي الحاكم إلى منصبه الذي يشغله من خلال الخبرات التي يحصل عليها من رتب أقل. وسوف تعد هذه الخبرات الحاكم لحصوله على المهارات التي سيحتاجها في المناصب التي سيتولاها. فإذا اعتاد الحاكم على هذه المهارات، يمكنه أن يحل بسهولة الصعوبات التي يواجهها في منصبه. وسوف يسمح هذا الموقف للجمهور بزيادة حبه وولاءه لحاكمه.
أما بالنسبة لفن الحرب، يُعتبر هذا الفن قدرة الجيوش على تصميم وتجنيد أنفسها من أجل إخضاع المدن والدول لها حتى تحقق السعادة حيث تم إنشاء كل كيان من أجل الحصول على النضج الكامل. ويسمى هذا النضج للبشر السعادة العليا.
ويُعد أي شخص يشغل وظيفة سياسية أو يمتلك الفن الذي يُمكّنه من القيام بالأعمال السياسية هو النخبة. وأي شخص يستحق تولى مهام وظيفة ما هو نموذج للفن أكثر اكتمالاً، حيث يستحق أن يكون من بين أعضاء هذه النخبة. وهذا هو السبب وراء اعتبار أن النخبة الأكثر تميزًا وهنا، يأخذ الفارابي السياسة بعين الاعتبار. وبعبارة أخرى، فهو يعتبر مهمة حكم الشعب فنًا. وبالتالي، يجب أن يمتلك الشخص الذي يصل إلى مهام منصبه الجوانب التي تفصله عن الآخرين، بمعنى الجوانب التي تميزه عنهم.
مطالبة الرئيس في معرفته. إن النضج النهائي الذي يجب أن يحققه الإنسان هو إكمال الغرض من العلم. فأي شخص يتمتع بمهارة بالغة في فن ما يُطلق عليه بأنه قد أتقنه ولهذا السبب، نحن نرى بأن الفارابي يركّز بشكل خاص على مؤهلات الأشخاص الذين يتولون الإدارة. وعلى وجه الخصوص، يتم إيلاء اهتمامًا خاصًا لمعرفة الرئيس ولأجهزته الأخلاقية والفكرية.
ومن أجل يصبح الإنسان فيلسوفًا ناضجًا بالمعنى الحقيقي، يجب أن يمتلك علم المعرفة والقدرة على استخدامه على حد سواء. فإذا وصل الإنسان إلى مستوى الفيلسوف الحقيقي، لن يكون هناك اختلافًا بينه وبين القاضي. ويتكون كل نشاط تعليمي من شيئين. الأول هو تعليم ما يُقرأ. والثاني، هو تعزيز ذاتية الشخص نفسه. وفي حين أن طبيعة النشاط الأول يمكن فهمها من خلال العقل، يمكن تخيل النشاط الثاني من خلال مثال يلائمه.
ويؤكد الفارابي، الذي أقام علاقة مع قدرة التفكير والسعادة، على أن الشخص الذي تولى أعلى منصب ينبغي أن يكون فيلسوفًا، ويشير إلى اتجاه الإنسان الذي يمزج الفكر بسلوكه لأن الرئيس يجب أن يحفز الجمهور مستخدمًا أفكارهم، ويجب أن تكون لديه القدرة على التأثير عليهم بكلماتهم وأفعالهم وسلوكياتهم.
ويتمتع المُشرّع بالشروط اللازمة من أجل تحقيق السعادة القصوى بقدرته الفائقة على التفكير. ولهذا السبب، يجب أن يكون المُشرّع الذي ينوي الوصول إلى الرئاسة فيلسوفًا. لذلك، يجب أن تكون كلمات الفيلسوف والمُشرّع والقاضي لها نفس المعنى. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون لديه القدرة على الإقناع الجيد وعلى التعبير عن الأشياء بالأحلام. وهنا، تتم الإشارة إلى أن الشخص الذي يدير الأشخاص لديه قدرة على تفكير عميق وكذلك حب للمعرفة.
وتصرح كلمة الحاكم بالسيادة والموهبة. ومن المستحيل إدراك ذلك دون قوة المعرفة وقوة التفكير والفضيلة والقوة العظيمة لفنه. ووفقًا لرأي الفارابي، يعني الفيلسوف والرئيس الأعلى والحاكّم والمُشرّع والإمام شيئًا واحدًا فقط. حيث يُرى بأن جميع هذه التعريفات تندمج معًا لتظهر نفس المعنى الواحد. حيث يرى أن الشخص الذي سيكون حاكمًا مثله مثل الفيلسوف لشعبه بالمعنى الفكري له مع المهام التي قد اضطلع بها. وفي نفس الوقت، يُعتبر إمامهم بالمعنى الروحي. وبالمعنى القانوني، فهو قاضي أقدم سيضمن تحقيق النظام في بلاده.
إن السعادة هي أن الروح الإنسانية سوف تصل إلى مستوى مادة لن يكون الجسد البشري في حاجة إليها. حيث لا يوجد شيء يمكن أن يصل إليه شخص ما أبعد من المادة. وتُعد الأفعال التي تساعد على تحقيق السعادة أفعالاً جميلةً. وتُعد السلوكيات التي تعيق وصول الروح إلى السعادة سلوكيات شريرة، وهي سلوكيات غير سارة. وتكون القوة المُغذّية في الإنسان مُلزمة بخدمة الجسد. وهنا، تتم الإشارة إلى السعادة وهي الهدف الأسمى للإنسان. وبالتالي، تكتسب السلوكيات التي تدفع البشر إلى السعادة أيضَا أهمية. وبطبيعة الحال، تُعتبر المسائل التي تمنع الوصول إلى السعادة أنماطًا معيبةً وذات سلوك سيئ. ومن وجهة النظر هذه، يمكننا ملاحظة بأنه سيتم تقدير السلوكيات بقدر ما تجلب السعادة للناس.
وإذا لم تدركوا السعادة أو حولتوها إلى مقصد مرغوب فيه، أو إذا استهدفهم شيئًا غيرها، حينذاك لن تكون أفعالكم أفعالاً جيدة. ويمكننا التأكيد على أن السعادة ينبغي تصورها بأنها عملية. ولأن السعادة القائمة على أي شيء ليست سعادة حقيقية، ولكنها سعادة مُؤقتة. وبالتالي، فنحن في حاجة إلى تحويل السعادة إلى طريقة للحياة.
فكل إنسان في حاجة إلى أشياء كثيرة في الخلق من أجل العيش وتحقيق التميز. ولهذا، يحتاج كل شخص إلى الاجتماع بشخص آخر سويًا. حيث يمكن لكل شخص أن يقوم بذلك/تقوم بذلك. ويكون موقف جميع الناس ضد بعضهم البعض في هذا المركز. وهكذا، يمكن لكل فرد تحقيق الحاجة إلى الإتقان في الطبيعة فقط عندما يجتمع الناس معًا من أجل المساعدة. وعندما نقول المجتمع الكبير، فإذن ذلك يشير إلى جميع الناس الموجودين على الأرض. حيث يتكون الوسط من الأمم على وجه البسيطة. ويتكون المجتمع الأصغر من ساكني المدينة. وتدين البشرية بتطورها للناس الذين يعملون معًا. ونظرًا أن العقل الجماعي أكثر قيمة من الجهد الفردي، يمكن للبشر أن يروا فقط تقدمًا محدودًا.
ويمكننا أن نقول فقط بأنه مثلما يتحقق العمل الخيري بالرغبة والإرادة، يتحقق الشر أيضًا بالرغبة والإرادة. وبالتالي، من الممكن أيضًا أن تتحول المساعدة داخل حدود مدينة ما نحو غايات الشر. ويُعتبر المجتمع الذي يعمل سويًا من أجل تحقيق السعادة أمة فاضلة. ولكن في حالة تقديم ساكني المدينة المساعدة بغرض توصيل السعادة، تصبح هذه المدينة مدينة فاضلة. ويصبح العالم الذي يعمل معًا من أجل توصيل السعادة لجميع الأمم عالمًا فاضلاً. ويمكن أن يؤدي مفهوم الرغبة إلى الرفاهية البشرية وإساءة معاملتها. ويتم جعل سعادة أمة ما أمرًا ممكنًا عن طريق الإدارة المُشتركة التي سيظهرها الأفراد في الاتجاه الصحيح.
وتتفوق العناصر التي تشكّل المدينة على بعضها البعض في الخلق. ومن بينها، يوجد شخص يتصرف كرئيس وشخص آخر يكون قريبًا منه في مرتبته. حيث يستخدم كل واحد منهما قدراته وملائكته وفقًا لأهداف الرئيس. وحيث يوجد آخرون تحت تصرف هؤلاء من أصحاب المراتب العليا، هناك أشخاص آخرون تحت تصرفهما. هؤلاء الأخيرون في المستويات الأدنى لم يعدوا يقودون أشخاصًا آخرون، ولكنهم يكتفون فقط بتلقي الأوامر. ولا يمكن اعتبار فن الإدارة يمكن لأي شخص أن يتحمل القيام به مع السياسة أي فن. ويتم تخصيص معظم الفنون في المدينة للخدمة وليس للرئاسة. ولقد خُلق معظم الناس بالفعل من أجل الخدمة.
ولا يوجد أي شك في أن الحالة الفاضلة التي قد صممها الفارابي من أجل إنشاء مجتمع فاضل تحمل آثار الدولة الفاضلة لأفلاطون. حيث يشير أفلاطون إلى أن الفلاسفة ينبغي أن يكونوا ملوكًا، وينبغي أن يكون الملوك فلاسفة. ويوصي الفارابي بنظام سيضمن سعادة الشخص والعالم. ويعتبر هذا التلميح نمط حياة القرآن الكريم. فهو أراد الجمع بين الصفات العليا للنبي والفيلسوف في شخص الرئيس الأمثل للدولة والذي وصفه بأنه أول رئيس وإمام.
وربما نفترض بأن العرب قد انبهروا في البداية بالجوانب المادية للحضارات الأقدم من حضارتهم التي خدموها ليكونوا ورثة لها. فلقد أصبح من الواضح بشكل متزايد خلال السنوات الأخيرة بأن المؤسس الحقيقي للفلسفة السياسية من بين العرب كان الفارابي. ومن غير المرجح أن الفارابي لم يكن على دراية بأعمال الكندي، التي كانت في متناول الجميع وموجودة في كل مكان. ولكن يبدو أن التزاماته تجاهها في كتاباته السياسية كانت مُقصورة على العوامل الخارجية، مثل استخدام شكل الرسالة. وقد نلاحظ أيضًا بأنه هناك مصادقة بين اللقب في حالة الرسالة في سياسة المؤلفين، وبأن حب الكندي للفارابي لديه أيضًا تنبيه.
هذه هي الأمثال المنفصلة التي تشمل العديد من الاعتبارات الأساسية حول الكيفية التي يجب أن تُحكم بها المدن وتُجعل بها مزدهرة، والتي يجب إصلاح حياة الشعب بها، والتي يجب بها أيضًا توجيههم (الشعب) بها نحو السعادة. فعندما ننظر إلى الروح، فإن الروح تقوم بدورها بأكثر الطرق اكتمالاً وكمالاً. وتكون حالات الروح التي يفعل بها رجل ما الأعمال الصالحة ويقوم بها بالأفعال العادلة هي الفضائل.
أما بالنسبة لرجل الدولة، تكون حالات الروح من خلال الفن السياسي، وبالنسبة للملك، تكون من خلال تقديرات الفن الملكي حيث يكون من الضروري توظيف فنه، وعلى من وليس على من، وأي نوع من الصحة من الضروري توفيرها للأجساد، وأي نوع من الصحة ليس من الضروري توفيرها للأجساد. ومن الضروري بالنسبة له أن يعرف عن الروح القدر الذي يحتاجه فقط في فنه، تمامًا كما يحتاج الطبيب إلى معرفته حول الجسم، وما يحتاج النجار إلى معرفته حول الخشب، وما يحتاج الحداد إلى معرفته حول الحديد، فقط بالقدر الذي يحتاج إلى معرفته في قلبه.
إن الفضائل لها نوعان، الأخلاقي والعقلاني. الفضائل العقلانية هي الفضائل ذات الجانب العقلاني مثل الحكمة، والفكر والذكاء والاستعداد للحنكة وتميّز الفهم. أما الفضائل الأخلاقية فهي الفضائل مثل الاعتدال والشجاعة والكرم والعدالة.
ولا يُطلق على الحالة الطبيعية فضيلة ولا رذيلة، حتى إذا كان التكرار منها أفعال من نوع واحد فقط. وليس للحالة الطبيعية اسم حتى إذا أطلق عليها أي شخص فضيلة أو رذيلة، وحتى إذا انطلق منها أفعالاً من نوع واحد فقط.
وتكون المدينة لا غنى عنها في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان تكون مثالية. والمدينة التي لا غنى عنها هي المدينة التي تقتصر فيها المساعدة المتبادلة لأعضائها على الوصول إلى ما لا غنى عنه فقط من أجل استمرار الإنسان ومعيشته والحفاظ على حياته. وتكون أجزاء المدينة المثالية خمسة: وهم الأكثر فضيلة أو تميزًا، والمترجمون الشفهيين، والمُقيّمون، والمقاتلون، والأغنياء. ويكون الجزء الأكثر تميزًا هم الحكماء، وهم الرجال الذين لديهم الحكمة العملية والذين لديهم الأفكار حول المسائل العظيمة، ويأتي بعد ذلك حملة الدين والمترجمون الشفهيين وهم المنظرون والشعراء العباقرة والموسيقيون والأمناء وما شابههم الذين ينتمون إلى عددهم. وبعد ذلك الرجال المقاتلون وهم الجيش والحراس وما شابههم وما يحسبون معهم. والأغنياء هم الرابحون للثروة في المدينة مثل المزارعين والرعاة والتجار وما شابههم. ويكون الوئام بين كل من هذه العناصر التي تشكّل المدينة هو باب السعادة.
ويجب أن يحكم حاكم المدينة بالضرورة شأن كل جزء من أجزاء المدينة، سواء كان ذلك الجزء صغيرًا مثل رجل أو كبيرًا مثل أسرة، وأن يعامله معاملة جيدة ويمنحها له. ويعتبر رؤساء وحكّام هذه المدينة أوصافًا خارجية. أ. فالملك في الواقع هو الرئيس الأول لها وهو الذي تجتمع فيه ستة شروط: ألا وهي (أ) الحكمة؛ (ب) الحكمة العملية المثالية؛ (ج) التميز في الإقناع؛ (د) التميز في تقديم انطباع خيالي؛ (ه) القدرة على خوض الحرب المقدسة (الجهاد) بشخصه؛ (و) هو الذي لا يوجد شيء بجسده يمنعه من الاهتمام بالأمور التي تخص الحرب المقدسة.64 ويمتلك حاكم المدينة بعض المؤهلات التي يجب أن تكون لديه من أجل أداء واجباته تجاه شعبه. ويجب أن تنعكس هذه المؤهلات التي يجب أن يديرها ذلك الشخص في سعادة شعبه. وهذه السمات التي ينبغي أن تكون موجودة في المدير تجعله قويًا وفعالاً وذي قيمة.
ويفقد الرجل الفاضل ببساطة بالموت القدرة على مضاعفة الأفعال التي تزداد سعادته بعدها بالموت. ويجب ألا يتسرع الرجل الفاضل الموت. بل يجب أن يسعى إلى وسائل للبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة من أجل أن يكون من الممكن أن يفعل بشكل متزايد ما يجلب له السعادة. وعندما يخاطر المُحارب الفاضل بحياته، فإنه يفعل ذلك ليس بفكرة أنه لن يموت من خلال قيامه بفعله هذا. حيث أن ما يفعله المحارب الفاضل من خلال مخاطرته بحياته يكون من أجل فعل فاضل بنفس قيمة عمره إلى حد كبير. وبالتالي، يحتوي التقدم الذي تحرزه فضيلة قوية من رجل ما أيضًا على قيمة.
الخلاصة
مما لا شك فيه أن عمل الفارابي الذي يطلق عليه اسم المدينة الفاضلة يحتل مكانة مهمة للغاية في الفكر التركي – الإسلامي. وعلى وجه الخصوص، فإن العلاقة التي يوضحها الفارابي بين المجتمع والدولة تعتبر بشكل واضح للغاية واحدة من العوامل الرئيسية التي تزيد من أهمية العمل. ويقسّم الفارابي المجتمعات إلى فئات. حيث يذكر بأن التميز والسعادة لا يمكن تحقيقهما إلا في المجتمع الفاضل. فوفقًا له، فإن الهدف النهائي للإنسان ينبغي أن يكون تحقيق السعادة والفضيلة. وهذا ممكن فقط في مجتمع فاضل. كما يعتبر الفارابي المجتمعات غير الفاضلة بأنها مجتمعات متعارضة. ويصنّف هذه المجتمعات على أنها مُجتمعات جاهلة وفاسدة وغير مُتغيرة.
ويقول بأنه يتم الخلط بين الرغبات القوية للبشر ومفهوم السعادة لديهم. وهناك حالات مثل المرض والمحنة والموت والخسارة وما إلى ذلك التي تلقي بظلالها على السعادة البشرية. ويعتمد ما نسميه السعادة على فكرة التمتع بالكفاءة. ويدفع امتلاك شخصية جيدة البشر إلى السعادة. وربما تكون المشاكل المادية أو العقلية أو الاجتماعية من بين العوائق أمام سعادتنا. حيث تُعتبر تلك الأبعاد التي تساهم في السعادة الأبعاد الإيجابية للسعادة. وتعتبر عوائق السعادة هي الأبعاد السلبية للسعادة. وفي هذا السياق، تُعتبر الفضيلة عنصرًا وأداةً لازمين للسعادة.
ويعني الشعور بالسعادة كونك إنسانًا طيبًا وتعيش حياة طيبة. حيث يعني تعيش حياة طيبة أن تعيش بشكل منطقي وتقود حياة فاضلة. ويعتبر الإنسان الذي يقود هذا النوع من الحياة إنسانًا خالدًا. فبعد وفاته، سوف يجرب أفضل سعادة. وهناك اختلاف كبير بين السعادة التي يعرّفها الفارابي، والسعادة التي نُقوم بتعريفها الآن. ووفقًا للفارابي، فإن السعادة ليست شيئًا مكتسبًا عن طريق الصدفة أو عن طريق الأذواق العادية. وتتطلب السعادة بذل جهدًا حقيقيًا ومستمرًا. حيث أن السعادة هي شيء قائم على أداء الإنسان بشكل مثالي. النجار مثلا يضمن أداء عمله وبأن السعادة تصنع له أريكة جيدة. وبالمثل، يجب أن يجعل إنسان يستخدم معرفته ،في ظروفه، حياته هي الأفضل.
وحتى يكون الشخص سعيدًا وفقًا لفهمه، تعتبر السعادة هي الكفاءة الأخيرة لشخص ما. فإذا حصل البشر على هذه الكفاءة، لن يوجد شيء آخر يطلبونه. وبالتالي، فإن السعادة هي الهدف الأكثر تفردًا الذي يتم تحقيقه فيما بين كل الصلاح والأهداف. وتكون طريقة الوصول إلى الكفاءة أو السعادة البشرية أمرًا ممكنًا عن طريق جعل الروح نشطة.
ويحتل مفهوم العقل مكانًا مهمًا في الوصول إلى السعادة. وفي هذا الصدد، يمكننا تعريف شعوره بالسعادة على أنه عملية التمكين القائمة على القدرة. ويمكننا القول بأن هناك علاقة إلزامية بين فعل التفكير والسعادة. ويمكن تحقيق مفهوم التفكير فقط عن طريق حقيقة أن الأشياء الجميلة تصبح كفاءة في شخصيتنا. ولقد اكتسب البشر الكفاءة من خلال فن الفلسفة. كما نحتاج إلى النظر إلى وضع المعرفة من أجل أن نفهم العلاقة القائمة بين السياسة والسعادة في نهج الفارابي. ويذكر الفارابي الأشياء التي هناك حاجة إلى معرفتها. ويغطي ما يحتاج ذلك إلى معرفته جميع المعرفة العملية والنظرية داخل إطار الفلسفة.
ولدى الإنسان ميل إلى ما يفهمه، ويُسمى هذا الميل باسم الإرادة إذا كان ذلك الميل من خلال السمع أو التخيل. ولكن إذا تحقق هذا الميل من خلال التفكير فيه، فإنه يُطلق عليه الإرادة. ولكن في حالة تحقق هذا الميل من خلال التفكير. تكون هذه السمة فقط خاصة بالإنسان. ومع ذلك، هناك حيوانات أخرى في الميل لسماع وتخيل المناسبة، فيما يسمى الوصول إلى مستوى الكمال الإنساني.. السعادة.

